إيه! أيّ ذكريات، ولكن الغياب يقوّض الأيام في الذاكرة، فلا تتكرّر، بحيث يبدو الإمساك باللحظة المتصرّمة كمحاولة للإمساك بالسراب! حتى أمك ما عادت تلك الصبيّة المسكونة بالحركة، التي كانت تنفخ في الأشياء بعضاً من روحها، لتنبض بالحياة! لشدّ ما كسرها رحيل أبيك المبكّر! وهاهو شهر الصيام يلّوح بيديه مودعاً، وعيد آخر لا كالأعياد يجيء، ربما بتأثير من مواجع الفترة الماضية، فتناهض ممنياً النفس القلقة بجديد بدا موغلاً في النأي! وتتفكّر: </STRONG>
ربّما كان علينا أن نستفيد من القرارات التي أصدرتها الحكومة حول إعادة مصادرات التأميم إلى أصحابها في تعبئة الناس ضدّها! </STRONG>
وتتفكّر أيضاً: إذا لم نستطع أن ننظّم تلك التظاهرات والإضرابات التي عمّت البلاد في تيّار، فعلى هذه الأرض السلام! </STRONG>
وكان عليك أن تترجم ما يدور في ذهنك بصورة ما، فقلتَ لنفسك: أن نخطو خطوة واحدة، خير من أن نمضي العمر كلّه في الكلام! </STRONG>
وكان أن ضمّك "الاتحاد الاشتراكي" الوليد تحت جناحه، فانشغلتَ تماماً بما يجري! </STRONG>
- 2 - </STRONG>
وعلى نحو مفاجئ وقاصم هاجمك المرض، لكنك عرفتَ ـ فيما بعد ـ أن الواقعة لم تحدث بغتة كما تراءت لك لأول وهلة، وأن الكثير من الإشارات كانت تفصح منذرة، إلا أن جهلك بالعواقب من جهة، وميلك إلى تبسيط الأمور من جهة أخرى، حجبا عن ناظريك حقيقة ما يجري، فكان أن وصلت الأمور إلى مفترق صعب! </STRONG>
في البدء راحت آلام شديدة تغزو أسفل الظهر، بحيث لم تعد قادراً على ثني جذعك، أو رفع يديك إلى الأعلى إلاّ في حدود ضيّقة! بعضهم تكهّن بنقص في التكّلس، فيما تكهّن آخرون بلمعة في الظهر! هؤلاء اقترحوا أن تشرب بيضة نيئة كلّ صباح لمدة أربعين يوماً، واقترح أولئك نوعاً من اللبخات؛ التي ما عدتَ تتذكّر المواد الداخلة في تركيبها، بيد أن الألم تشدّد في ضغطه، وكان لا بدّ من عرض الموضوع على الطبيب، الذي أكدّ على الراحة التامة، فتمددّتَ على ظهرك أياماً عشرة، إذْ لم يكن ثمة خيار آخر! كان الأوان لدفع فاتورة وقوفك المديد في العراء بصيفه الخانق، وشتائه القارس قد أزف، وابتداءً بصبيحة اليوم الخامس أخذ الألم يتراجع موحياً بالشفاء! فالتحقتَ بفرقتك ثانية، وغرقتَ في دوامة العمل، ذلك أنك كنتَ تجهل بأنّ مرضك علّة ميكانيكية؛ ستتفاقم إن رجعتَ إلى الأعمال المجهدة، ولم يلبث الألم أن هاجمك متشدّداً في ثورته، بحيث أضحت أي حركة معادلة للموت، ولم يقتصر الألم على أسفل الظهر في هذه المرة، بل اتخّذ لنفسه مساراً آخر يتفرّع عن العمود الفقري نحو المفصل الحرقفي، فامتداد العضلة الخلفية للفخذ والساق! ولم يكن ثمة مناص من مراجعة الطبيب ثانية! لم تكن قد سمعتَ بالتهاب العصب الوركي، أو فتق النواة اللبيّة من قبل، و لهذا أقلقك الاقتراح الغريب ! </STRONG>
ـ أخ أحمد، أنصحك بأن تعرض نفسك على أخصائي في الأمراض العظمية أو العصبية! سافر إلى "حلب"، واستشر طبيباً هناك! </STRONG>
وتهاويتَ على المقعد متفكّراً، لكنه لم يتركك لهواجسك طويلاً! </STRONG>
ـ لا شيء مهمّ يا أخ أحمد! فقط أريد أن أطمئن عليك! </STRONG>
ـ ولكن إلامَ تذهب أنت في حالتي يا دكتور!؟ </STRONG>
ـ لستُ متأكّداً! ربما تكون مصاباً بالديسك! </STRONG>
كانت التسمية غريبة عليك، فتململ الخوف الهاجع تحت الجلد، وتساءلت بحيرة: </STRONG>
ولكن أين العلاقة بين العمود الفقري، والألم المنتشر على امتداد القدم اليمنى!؟ </STRONG>
وانتبه الرجل إلى شرودك، فقال: </STRONG>
ـ أخ أحمد، لا تتوهّم مسبقاً! سافر أولاً، وعندما تعود سنرى! </STRONG>
وغادرتَ العيادة ذاهلاً! في الخارج كانت الشمس شعاعاً واهناً يمتصّه ضباب خفيف، غير أنك كنتَ منشغلاً عمّا حولك، فأنت لم تسافر خارج حدود المحافظة من قبل، ولا تعرف كيف ستتدبّر أمورك هناك! كان السفر إلى "حلب" معادلاً لأن تدفع سبع ليرات في الذهاب، ومثلها في الإياب، وربما استتبع الأمر ليرتين أو ثلاثاً للفندق عن الليلة الواحدة! ثم أن الطبيب سيطالبك بعشر ليرات على سبيل الكشف، هذا إذا لم يطلب صوراً وتحاليل مختلفة! أنت لم تتفكّر في الطعام طبعاً، ربما لأن رغيفاً من الخبز كفيل بحلّ المشكلة، ولكن ماذا لو جنحت الأمور نحو العمل الجراحي!؟ </STRONG>
وراحت تلك الأسئلة تلهج في طلب الأجوبة، لكن "خليلاً" تدّخل ليمنعك من الاسترسال فيها! </STRONG>
ـ يا أحمد أنت تنظر في الأمور مجتمعة، فتعظم في عينك! ثمّ من يدري يا أخي، فقد لا يحتاج موضوعك في النهاية إلى أكثر من زيارة للأخصائي! </STRONG>
ـ ولكن! فاحتدّ: </STRONG>
ـ دعك من "ولكن" هذه! تدبّر أمرك في السفر الآن، وفي ما بعد سيكون لكل حادث حديث! </STRONG>
فسافرت إلى "حلب"، لتخطّ الذاكرة في سِفْرها ذهول الروح أمام أبهّة مدينة ملأى بالعمارات الشاهقة، مزدحمة بالعربات المختلفة، وقرميد المدن ذي الأصول القديمة! كان الطريق إليها طويلاً، فاستيقظت هواجسك ثانية، لتسطّر أسئلة الغريب في ذاكرة السفر، في حيرته من مثل أين تنام!؟ وكيف السبيل إلى عيادة الطبيب!؟ ماذا لو تهتَ في بحر هذه المدينة الكبيرة!؟ وهل ستكفيك النقود التي تحملها معك!؟ وهكذا ظلّت الأسئلة تأخذك وراءها، إلى أن توقفّت السيارة في ساحة "باب الفرج" التي عرفتَ اسمها فيما بعد، فنزلتَ منها مُشعثاً، مُنهكاً، وتلفتَّ حولك بحيرة! </STRONG>
أين أنت!؟ </STRONG>
ومن فوره تمطّى الذهول في وهاد النفس! </STRONG>
من أين تجيء كلّ تلك الحشود!؟ </STRONG>
كان الناس يتدافعون من حولك جماعات، فتغلبّتَ على تردّدك؛ و استفسرتَ عن فندق تنام فيه! وبدوره راح الجوع يضغط، فرشوته ببضع لقيمات، ثمّ أويتَ إلى غرفتك بالفندق لترتاح! ولمّا جاء الصباح؛ قصدتَ عيادة الطبيب القريبة من الساحة، فنهض رجل كان قد تجاوز العقد الرابع من عمره بقليل من خلف الطاولة! </STRONG>
ـ أهلاً، أهلاً سيد أحمد، تفضّل! </STRONG>
ونابت الرسالة التي كان طبيبك قد كتبها في الكلام بدلاً عنك! </STRONG>
ـ لابأس يا سيّد أحمد، ولكن هل تتمدّد قليلاً!؟ </STRONG>
وتأملّ في الصورة الشعاعية التي كنتَ تحملها مليّاً، ثمّ رفع قدمك اليسرى إلى الأعلى، فلما جاء دور اليمنى؛ أبت أن ترتفع، وراحت مكامن الألم تنزّ، فربت على كتفك! </STRONG>
ـ حسناً، حسناً، هلاّ جلستَ!؟ </STRONG>
وأنشأ يتحرّى المنعكس العصبي عندك بوساطة مطرقة صغيرة مُغلفّة بالبلاستيك الأسود! </STRONG>
ـ آهّا، سيّد أحمد أريدك أن تتمّشى على رؤوس أصابعك! </STRONG>
فمشيتَ بشيء من التعثّر! </STRONG>
ـ يكفي يا سيّد أحمد، يكفي! والآن امشِ على عقبيك لأرى! </STRONG>
وامتثلتَ، فتنهّد قائلاً: </STRONG>
ـ سيّد أحمد، ثمة انقراص في المستوى الواقع بين الفقرة القطنية الخامسة والعجزية الأولى! حالتك واضحة تماماً، ولا أعتقد أنك تحتاج إلى صورة شعاعية جديدة! باختصار يا سيّد أحمد فأنت مصاب بالديسك! </STRONG>
وكانت المسألة تشكو شيئاً من الغموض بصورة ما، فسألته: </STRONG>
ـ وماذا تريدني أن أفعل يا دكتور!؟ </STRONG>
ـ قبل كلّ شيء عليك أن تبدّل العمل الذي تقوم به! </STRONG>
ـ كيف!؟ </STRONG>
ـ لا تخف، سأزوّدك بتقرير طبيّ، وعندما تعود إلى بلدتك عليك أن تتقدّم بطلب إلى دائرتك، لكي تحولّك إلى اللجنة الطبية لفحص الموظفين، وفي ضوء التقرير الذي سأكتبه لك، فإنها ستقرّر نقلك إلى عمل إداري! </STRONG>
وكان ذهنك يشتطّ في اتجاه آخر، فسألته بقلق: </STRONG>
ـ وهل تعتقد بأنني سأحتاج لعمل جراحي!؟ </STRONG>
ـ أوهّو! لا … لا! لقد شطحتَ بعيداً يا سيّد أحمد! أنت ما تزال شاباً، و في مثل حالتك نفضّل أن نجرّب العلاج المحافظ، أمّا المداخلة الجراحية، فلا نلجأ إليها إلاّ إذا فشل العلاج المحافظ! على كلّ حال تلك أمور يعود تقديرها لي؛ فدع عنك هذه الهواجس! سأصف لك بعض الأدوية، ولكن عليك أن تتذكّر دوماً بأن الراحة هي نصف العلاج! وأنا أفضّل أن تتمدّد على فراش قاس، وألاّ تنهض إلاّ لقضاء حاجة، وبعدها سنرى! </STRONG>
وتركتَ "حلب" وراءك! كان كلامه قد بعث في نفسك شيئاً من الطمأنينة، من غير أن يخلو الأمر من بعض المنغصات التي تتعلّق باللجنة الطبيّة، وتغيير العمل، لكنك أرجأتَ المسألة إلى ما بعد عودتك! </STRONG>
- 3 - </STRONG>
ثم ماذا بعد حساسيتك المفرطة تلك!؟ </STRONG>
الإحساس بالعجز، أم المرض، أم الانقطاع المديد عن الناس والحياة الاعتيادية!؟ </STRONG>
ترى أيّهما يأتي قبلاً، وأيّهما بعد!؟ أيّهما السبب الذي يفضي بالآخر إلى تلك الحال، وأيهما النتيجة!؟ </STRONG>
ساعة إثر ساعة كان الوقت يمضي وئيداً، وأنت مستلقٍ على ظهرك، عاجز عن الحركة تقريباً، إذْ باستثناء قضاء حاجة ما كانت الحركة محظورة عليك تماماً، ربّما لأن التحسّن كان شديد البطء هذه المرة، فراحت الأسئلة تتلاحق، ليتضافر اليأس مع الملل، ويتراكم بكلّ سواده ومرارته في سراديب الذاكرة المكتظّة بدماملها! </STRONG>
ثمّ ماذا لو أقعدك المرض!؟ </STRONG>
وعند هذا السؤال- على وجه التحديد- كان كلّ شيء يلبس سواده الخاص، بينما يرين سكون مميت على الروح المتشرنقة بيأسها وخوائها! إلا أن بقعة ما، بقعة نائية في الأعماق ظلّت تدرك بأن إحساسك بالعجز ما هو إلاّ نتيجة وليس سبباً، ذلك أن المـرض كان قد فرض عليك فسحة إجبارية طويلة تتفكّر خلالها في حالك، وفيما تخبئّه لك الأيام، فأخذتَ تدرس الاحتمالات كافة، لكنّها بعيداً عن كلّ مؤشّر بدت لك مؤسية! لم يكن مرضك هو السبب الوحيد في حساسيتك تلك، إذْ هاهي الأيام التي تلت عودتك من "حلب" تفاجئك بكل غريب، ربّما لأنّك كنتَ تتوهّم بأنك تعرف دائرتك جيداً، لكنك اكتشفتَ بأنك مخطئ، فلقد رفضت طلبك الذي تلتمس فيه عرضك على اللجنة الطبيّة! </STRONG>
والآن!؟ </STRONG>
أنشأ السؤال يسطّر نفسه كهمس حائر ينثّ من مسام الجلد، وفي غمرة الذهول جاءك الحلّ الذي تاه عنك من أحد الزملاء: </STRONG>
أنْ وسّط أحد المتنفذيّن بالموضوع! </STRONG>
ولمّا لاحظ حجم الدهشة التي انداحت على ملامحك، أردف: </STRONG>
ـ ما بك!؟ ألستَ من سكّان هذه الأرض!؟ ألا ترى إلى ما يجري من حولك!؟ </STRONG>
ولكن حالتي واضحة وضوح الشمس في يوم قائظ! </STRONG>
هذا ما أرادت النفس أن تجهر به في ردّة فعلها الغاضب! بيد أنك ما إن هدأتَ، وتفكّرتَ في كلامه ملياً، حتى وجدتَ فيه الكثير من الصواب، فالتجأتَ إلى عبّ الصمت هامساً: </STRONG>
هكذا هي الأمور إذن! </STRONG>
كنتَ تتوهّم بأن الأيام المكفهرّة قد رحلت عن حياتك، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت العكس، وأخذت صورة مُضبّبة للأيام المقبلة تلوح في الذهن، وتدفع الأحاسيس الغافية نحو الحافات، إذْ كان عليك أن تتفكّر في حلّ يحفظ لك ماء الوجه، فلم تجد مخرجاً آخر، وفي هذه المرة وافقت الدائرة على ما سبق لها أن رفضته! فتساءلتَ: </STRONG>
ولكن ماذا لو وقع لك أمر مماثل أمام اللجنة الطبية لفحص الموظفين!؟ </STRONG>
وبحسب ما جرى، فإن هواجسك لم تكن بغير أساس، إذْ ما الذي تتوقّعه من أناس لا تعرفهم، إذا كانت دائرتك قد تصرّفت بما يخالف واقع الحال!؟ هنا استطعتَ أن توسّط البعض في المشكلة، فماذا ستفعل هناك!؟ </STRONG>
وراحت أعصابك تتشظّى في فضاء تساؤلاتها خلف الاحتمالات المختلفة لإمكان ما قد يحدث، لكن موافقة اللجنة على طلبك أعاد لتلك الأعصاب شيئاً من هدوئها! </STRONG>
غبّ أيام كلفّوكَ بعمل إداري في مديرية الزراعة، فابتعدتَ عن مرسح الأحداث الأخيرة قليلاً، لكن ذلك الابتعاد لم يفلح في كبح مخاوفك، فأنشأتَ تتأمّل في الدلالات والمعاني التي تكشّفت عنها أحداث الأيام القليلة التي تصرّمت، وفي غياب من حسّ الأمان أخذتَ تتساءل عن المصير الذي ينتظر عائلتك فيما أنت عاجز وأعزل! كان قلقك ينصبّ بالدرجة الأولى على ابنك، لأنّ أمك امرأة كبيرة في السن، قليلة المطالب، وكسرة من الخبز تسدّ حاجتها! وزوجتك امرأة صابرة، مدبّرة، ولن يُعييها الرغيف أبداً، أمّا ابنك الصغير الذي عرفتَ بوجوده في لحظة تختصر العمر كلّه في خانة النشوة، وآنَ جاء ملبيّاً لهفتك ، كان للأرض رائحة عشب الغابات وشذى الزيزفون! أمّا ابنك ـ هذا ـ فهو صغير ما يزال، وأنت تخشى أن تظلمه الحياة كما ظلمتك! لذلك ربّما أخذ إدراك مبهم يتململ، ثمّ يتبلور ويتضح تدريجياً، إدراك راح يقرّ بأن "خليلاً" و "إبراهيم" كانا محقيّن في ما ذهبا إليه حول ضرورة انضمامك إلى النقابة، وأخذ هذا الإدراك يكبر شيئاً فشيئاً، إلى أن انضممتَ إليها! </STRONG>
لم يكن ثمة مَلْمَح واضح للعمل النقابي في الذهن، فأنشأتَ تجتهد في ذاك الاتجاه، متوهمّاً بأن الأمور مُيسّرة، مرهونة بالإرادة والتصميم، إلا أن الواقع العملي فاجأك بأنّها ليست كذلك، وببطء وعناء شرعت صورة ابتدائية للعمل النقابي تلملم نفسها، </STRONG>
بينما راحت القراءات والحوادث المستجدّة تصقل تلك الصورة يوماً بعد يوم، ثمّ أنّ "خليلاً" لم يأل جهداً في كشف ما استغلق عليك من مفاهيم، ولم تكن المثابرة لتنقصك،ربما لإحساسك المرمض بالظلم والفوات! </STRONG>
فهل كان الزمن قد ظلمكَ حقاً!؟ </STRONG>
لكنّ الإجابة على سؤال كهذا لم تكن مجدية، فيما النفس ما تزال ترزح تحت وطأة شعور كذاك! شعور يرى بأن العالم المسكون بالعدل والسلام ما يزال بعيد المنال! ثمّ أنها لن تكون إجابة محايدة وموضوعية، لكنها ستقف على سرّ تعاطفك مع المظلوم تارة، وسخطك على النفس العاجزة؛ المتألمة من ضآلتها تارة أخرى، وستفسّر لك ارتفاع صوتك في وجه مظلمة أصابت عاملاً هنا، أو حيف لحق بعامل هناك، من غير أن تأبه بالنتائج، لتفتقد علاقتك مع الإدارة إلى المودّة! وكان غياب التفاهم بينكما مُتوقّعاً، لكن الذي بدا لك غير مفهوم، هو ذلك التماثل المقيت بين موقف الإدارة ذاك، وموقف غالبية أعضاء اللجنة النقابية، بما كان يدفع الأعصاب إلى حافات اشتعالها! </STRONG>
ولكن أليست مهمتّهم هي الدفاع عن حقوق العمّال!؟ </STRONG>
بيد أن صمتاً عاجزاً عن التبيان كان يجابه ذاك السؤال، فتزداد عناداً، وتزداد صبراً، وتزداد إصراراً، ويوماً بعد يوم كانت الأرض تشتّد تحت قدميك، ترسخ وتتوطّد، ومن كلّ مكان، من فرق المساحة التي كانت تركب شفق الدروب، إلى لجان توزيع أراضي أملاك الدولة والاستيلاء التي لم يُكتب لمهامها إتمام الدرب بعد، فورشات الميكانيك، وجموع السائقين راحت العيون التي كانت قد أضحت موئلاً لعروق التعب الحمراء، والظهور التي كانت أعباء الحياة قد أحنتها؛ تدفعك إلى كفكفة مشاعر الإحباط، فلقد بدأتَ تلمس بوضوح التفاف العمّال من حولك، ما منحك ثقة كبيرة بالنفس وبالآخرين، فرحتَ تغزل صورة بهيّة للأيام المقبلة، تتعزّى بها عن أيامك الكالحة! </STRONG>
- 4 - </STRONG>
إنّه يوم من تلك الأيام التي يقال فيها بأنها لك، وليست عليك!كان شباط يجّر مؤخرته فوق الثلوج مندحراً، وقزعات من الغيوم البيضاء الصغيرة تتناثر هنا وهناك في سماء عميقة الزرقة، بينما راح آذار ينساب زلالاً من بين السطور، أمّا الأخضر الذي كان حتى الأمس القريب قد فقد ملامحه تحت وطأة عبث ثقيل للطين، فلقد راح يفتّر بالتدريج، وأنشأت الحيوانات التي نذرت نفسها لسبات طويل تستيقظ! </STRONG>
متوتراً قدام فسحة الدار أخذتَ تذرع المكان جيئة وذهاباً! كان الانتظار قد نال من الأعصاب المشدودة، فيما كانت الدار قد انقلبت إلى خلية تعجّ بحركة محمومة، لكن الصغيرة التي أصرّت على استهلال حياتها بالبكاء أخيراً، أطفأت رماد الأعصاب المشتعلة بقلقها، فدخلتَ بلهفة: </STRONG>
ـ الحمد لله على سلامتك يا أم خالد! </STRONG>
وانخفضت عيناها بذلك الخفر الأنثوي الذي ابتدأ بأمنّا حواء ربما، وشعشعت ابتسامة ذاوية فوق الوجه المُنهك بآلام الطلق والولادة! </STRONG>
قلتَ: لن يشعر "خالد" بالوحدة بعد! </STRONG>
وقلتَ: ترى ما الاسم الذي يليق بهذه القادمة التي ملأت الدنيا صراخاً!؟ </STRONG>
وانشغلت الأسرة باستحضار الأسماء التي يمكن أن تُطلق عليها، ولمّا تبرعم الاسم في المخيلة؛ شقّت ابتسامة عريضة طريقها إلى زوايا الفم والعينين! </STRONG>
"سورية"! نعم "سورية"، فليس ثمة أسم أبهى من هذا الاسم! </STRONG>
ولم يلق اقتراحك أي اعتراض، فتفكّرتَ: إنْ يأتِ الخير يأتِ فرادى، و إنْ يأتِ الخراب فإنه يعمّ! فمن يدري!؟ لقد كان ما مضى في مجمله انكساراً، وقد تسطّر هذه الصغيرة خاتمة لذلك الانكسار! </STRONG>
كان الذين قادوا ثورة آذار ضدّ الانفصال قد أطلقوا الأحلام والفراشات الملوّنة على أعنتّها، غير أن أكثر تلك الوعود ملامسة لشغاف القلب تمثّل في إعادة الوجه الوحدوي للبلد، فأخذتَ ترفل في طيوفك الملونة، وقلتَ: نحن أبناء اليوم، فلنر أي جديد يخبئه لنا! ورميتَ بأيام السجن الذي أطلقوا سراحك منه خلف ظهرك، أو هكذا خُيّل إليك، ذلك أنّ مؤشر الذاكرة راح يمّر على الأحداث سريعاً، مؤكّداً أن ثمة أحداثاً في الحياة لا يمكن للنسيان أن يمحوها! </STRONG>
ليلاً كان الوقت! وكانت الكائنات الحية قد تدثرّت بالصمت، حين أفقتَ من النوم على خشخشة خافتة، وأصختَ السمع جيداً، لكنك لم تستطع أن تتبيّن إن كان ما سمعته من دبيب فوق السطح هو وقع أقدام، أم خشخشة جرذ، فاستويتَ في فراشك! </STRONG>
ـ ما بك!؟ سألتك زوجتك! </STRONG>
ـ لا شيء! أريد كأساً من الماء! </STRONG>
كان السكون العميم يسرّ بنذير مُبهم، وفجأة علا صوت قرع على الباب، فالتقت العيون الدهشة متسائلة عمّن يكون الطارق في مثل ذلك الوقت، وارتفعت أمك بجذعها الأعجف! </STRONG>